الاثنين، فبراير 02، 2009

الإصلاح 2

في مدونة سابقة تكلمت كلاما عاما عن الإصلاح ، وكان مما ذكرت أن الإصلاح مهمة عظيمة لا يتصدى لها إلا ذوو الهمم العالية ، والنفوس العظيمة ؛ ولا ينجزها إلا أصحاب العقول الكبيرة والفهوم الواعية ؛ الحاذقون بالداء العالمون بأسباب الدواء .  
وقصدي بهذا القول أن أشير إلى وجوب توفر بعض الشروط في من يتصدى لعملية الإصلاح ؛ لنتمكن من الحكم على دعاوى الإصلاح ، ومعرفة ما تهدف إليه تلك الدعوات من واقع القائمين عليها ، بعيدا عن الشعارات ؛ إذ ليس كل داعية إلى الإصلاح هو مصلح حقا ، بل قد يكون من المفسدين كما أخبرنا عن ذلك القرآن العظيم . 
ومن تلك الشروط أن يكون من يقوم بالإصلاح صالحا في نفسه ؛ لأن من لم يكن صالحا في نفسه فلن يكون قادرا على إصلاح غيره . 
ومعيار الصلاح والحكم به مصدره الشرع .وهذا من فضائل الإسلام ؛ إذ لم يترك مصائر البشر بيد أمثالهم ، بل إن الحكم على الناس بيد رب الناس ، وهو سبحانه حكم عدل ، يعلم السر وأخفى . 
إن من نتائج أن يكون معيار الصلاح رباني المصدر ثبات المعيار وعدم تغيره بتغير الزمان والمكان وتبدل الأحوال ، وبالتالي يكون ذلك المعيار معيارا موضوعيا لا علاقة له بتوجهات الأشخاص وقناعاتهم ؛ فالصالح من حكم الله بصلاحه بناء على التزامه بدينه وولائه لأمته وإن سماه بعض الناس بغير ذلك ، أو نبزه بخلاف ما هو عليه . 
ومن لم يكن صالحا بحكم الشرع فلن يثبت له ذلك الوصف وإن حاول من كان على شاكلته وحزبه أن يرفع من شأنه ويعلى رايته ؛ لأن العبرة بالحقائق من منظور شرعي . وفائدة أخرى للتسليم بربانية معيار الصلاح وهي حسم النزاع الحاصل بين طرفين في إثبات وصف وجعله من أوصاف الصلاح أو نفيه ، وذلك بالرد إلى الكتاب والسنة ؛ لأننا مأمورون بالرد إليهما ، والتسليم لحكم الله فيهما .  
والصلاح في المفهوم الشرعي يتحدد بالإيمان والعمل الصالح بما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى ، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم . والصالح بناء على ذلك المفهوم هو الإنسان المؤمن بربه ، العامل بشريعته ، المنتمي لأمته الإسلامية . والصالحون في ميزان الشرع ليسوا كلهم في درجة واحدة ، بل هم درجات وذلك مرتبط بزيادة الإيمان ونقصانه كما هو مذهب السلف الصالح . 
إن إقرارنا بأن أهل الصلاح ليسوا كلهم في درجة واحدة يقطع الطريق على متتبعي العثرات ، الباحثين عن الهفوات ؛ إذ لا يعني من سبقت منه سابقة معصية أو خلط عملا صالحا وآخر سيئا أن نبعده من مسار الإصلاح ، وألا نستفيد منه فيما يتقن إذا كان في ذلك مصلحة للأمة .  
إن الأمة تعاني من انتشار مساحة التضليل فيما يتعلق برموز الإصلاح مما أوقعها في الحيرة والاضطراب ؛ إذ بسب ذلك التضليل حرمت الأمة من جهود كثير من أبنائها ممن يقدر على المساهمة في إصلاح واقع أمته والعمل على رقيها وتقدمها . وبسببه أيضا تسلل إلى صفوف المصلحين ، وأخذ زمام المبادرة بالدعوة إلى الإصلاح ، وتبوأ منابره، واستولى على قيادة مراكبه من انسلخ من دينه ، وتولى غير أمته ، وسار في ركب أعدائها ، وعمل على تمكينهم منها .  
ولم يسلم من ذلك التضليل معايير الصلاح ذاتها ؛ حتى أصبح بعض الناس لا يرى  
بأسا أن يتولى عملية الإصلاح من لا تتوفر فيه الأوصاف الشرعية التي يثبت له على مقتضاها وصف الصلاح . 
كذلك إن الانتماء للأمة الإسلامية ، والالتزام بالحدود الشرعية للإصلاح من الأوصاف الواجب توفرها فيمن يتصدى لعملية الإصلاح ؛ إذ لا يمكن أن يعرف مصلحة الأمة من لا ينتمي إليها ، ومن لا يؤمن بسيادة الإسلام ووجوب الوقوف عند حدوده .  
إن من ثمرات أن يتصدى لعملية الإصلاح من يتولى الأمة ، ويؤمن بهيمنة الإسلام ، وصلاح أحكامه ، ووفائها بمتطلبات الحياة في كل زمان ومكان وضوح منطلقاته ، ومعرفة مرجعيته ، وبالتالي يستطيع القادرون وأصحاب الكفاءات من أبناء الأمة مساعدته ومناصحته وتصويب الأخطاء وتسديد المسيرة مما يقلل مساحة الخلاف ، فتجتمع كلمة الأمة ، ويتوحد صفها ، وإن حصل خلاف فهو خلاف فيما يسوغ فيه الخلاف ، ويقبل الاجتهاد ، ويعذر فيه كل من المختلفين الآخر بعيدا عن التعصب المقيت ، والاختلاف المذموم .  
وإن من فوائد اجتماع كلمة الأمة على أهمية الإصلاح ، واقتناعها به ، واتفاقها على مرجعيته يسد المنافذ على المتربصين بالأمة الدوائر ، ويقطع الطريق على ذوي الأهداف المشبوهة ، ودعاة المنافع الشخصية عن إشغال الأمة عن مصالحها ، وإبعادها عن أهدافها . 
وإن جعل الإسلام هو المرجعية للإصلاح بمعناه الشامل يشعل الحماس في قلوب الغيورين على أمتهم إلى العمل ، ويدفع القادرين على البحث العلمي إلى تكثيف الجهود ، وبالتالي تنشط الحركة العلمية ، وتوجد الحلول للمشاكل التي تعترض طريق الإصلاح .












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق